رواية في هواها متيم الفصل الثاني2من أقوال عمر بن الخطاب “رضي الله عنه”
“لا تعتمد على خلق رجل حتى تجربه عند الغضب”. “جالسوا التوابين فإنهم أرق أفئدة”.
٢– ” نظرات محرمة “
جحظت عينيها بعد سماعها ، ذلك الوصف والنعت لوالدتها ، فبما يقصد بتلك الكلمة المهينة ؟ فهى منذ زواج والدتها ، وهى ترى العيون ترمقها بغرابة ، فأحياناً كثيرة كانت تشعر بوجود خطب ما ، خلف زيجة والدتها ، ولم تنسى أيضاً ، إمتناع بعض النسوة ، عن مصادقتها لبناتهن ، فهى كانت تظن أن هذا بسبب ترك والدتهما لهما ، فهى كل ما تعلمه عن زوج والدتها ، أنه يمتلك مطعماً ومقهى بالقاهرة ، فهى لم تشأ البحث عن ماهية عمل زوج والدتها ، فهى منذ أن رآته ، لم تشعر بالراحة ، بل يقشعر بدنها عندما ينظر إليها ، ولا تعلم سر هذا الانقباض ، الذى تشعر به كلما تراه ، وربما هذا عائداً لملامح وجهه الغليظة ، خلاف تلك الملامح الحانية ، التى كانت لأبيها
خرج صوتها ضعيفاً من بين شفتيها الجافتين وهى تقول بذهول :
– رقاصة
قبل أن يتمكن الشاب من قول شئ أخر ، أسرع باسم بدفعه ، والتقط رسغ ليان ، يجرها معه بخطوات شبه راكضة ، فلم تعى ليان ما فعله شقيقها ، إلا بعدما وجدت نفسها داخل السوق ، فالضجيج يعم المكان ، ترتفع أصوات البائعين ، وكل منهم حريصاً على جلب الزبائن بعرض محاسن بضائعه
فوكزها باسم بذراعها قائلاً :
– ليان يلا شوفى هتشترى إيه خلينا نروح بسرعة
نظرت لشقيقها بتيه بادئ الأمر ، ولكن سرعان ما أخذت بإنتقاء الخضروات والفاكهة اللازمة ، فبعد شراءها ما يلزمها ، وضعت الأكياس البلاستيكية بحقيبة كبيرة خاصة بالتسوق
عادا للمنزل ، فوضعت ليان ما بيدها ،ولكنها بحثت عن جدتها لعلها تقدم لها تفسيراً لما سمعته من ذلك الشاب بالسوق ، فولجت غرفة جدتها ، وجدتها تستلقى على فراشها ولكنها لم تكن غافية
فأقتربت من الفراش تناديها بإلحاح :
– تيتة تيتة
نظرت إليها علية بإبتسامة هادئة وهى تقول :
– نعم يا حبيبة تيتة
جلست ليان بحانبها على طرف الفراش ، بدأت بفرك يديها ببعضهما البعض ، تحاول أن تجد من الكلمات ما تنمق به سؤالها ، ولكن أى كلمة تستطيع أن تقولها غير ذلك النعت الذى أطلقه ذلك الشاب على والدتها ، فهى تعلم مدى الجفاء بين جدتها ووالدتها ، وعلى الرغم من ذلك لا تذكر جدتها والدتها بسوء ، أو ربما لا تذكرها نهائياً بهذا المنزل بعد تركها المنزل
– تيتة هو فعلا ماما بتشتغل رقاصة
هكذا أنطلقت الكلمات من فمها بسرعة ، فغرزت أصابعها بين طيات الفراش ، كأنها بإنتظار سماع حكم مصيرى ، بصدق ما سمعته أو كذبه
توترت عضلة قرب فم علية ، مما سمعته من ليان ، فتبسمت بتوتر وقالت :
– إيه اللى بتقوليه ده ليان ومين قالك الكلام ده يا حبيبتى
تركت ليان مكانها ، فدارت حول نفسها ، وعينيها على وشك البكاء ، فقال بغصة :
– واحد هنا من البلد فاكرة الشاب اللى جه طلب ايدى من حوالى شهر هو ده اتخانق مع باسم ولما ضربته بالقلم قالى بتضربينى يا بنت إلهام الرقاصة
رفعت علية يدها اليمنى ، تشير إليها بالإقتراب ، فأسرعت ليان بالإرتماء بين ذراعيها ، وانتحبت على صدرها ، فما كان من جدتها سوى أن أحتوت جسدها بين ذراعيها وهى تهدهدها بلطف
فطبعت قبلة حانية على رأسها وهى تقول :
– إهدى يا قلب تيتة ده تلاقيه بيقول كده علشان متغاظ إن إحنا موفقناش عليه لما جه يتقدملك ، هو كان عايز يغيظك بس
بدأ مفعول كلمات جدتها ، بالظهور على وجهها ، فهى كفت عن البكاء ، ومدت يدها تمسح دموعها بطرف أناملها ، فهى إستكانت بين ذراعى جدتها ، ولكن علية أخذ الخوف منها كل مأخذ بعدما سمعت ما قالته ليان ، فهى وإن إستطاعت تدارك الأمر ، فهى تعلم أن الأمر لن يظل طى الكتمان للأبد ، مثلما حرصت على إخفاءه عن حفيديها
فحاولت صرف حزنها ، فأقترحت قائلة بإبتسامة :
– إيه رأيك نروح القاهرة ونشترى ليكى هدوم علشان الجامعة
رفعت ليان رأسها عن صدر علية وقالت :
– مش لما النتيجة تظهر بس يا تيتة وأشوف هدخل كلية إيه
– وفيها إيه يعنى حتى نزور صاحب باباكى عمك محسن بقالى فترة مشفتوش وهو من ريحة الغالى أبوكى الله يرحمه وكان روحه فيه
قالتها علية غير منتبهة هى ، لتلك الحمرة القانية التى ألهبت خديىّ تلك الفتاة ، فبإتيان جدتها على ذكر صديق والدها المقرب ، تذكرت هى أن بتلك الزيارة لن تراه هو فقط بل سترى أيضاً إبنه ، ذلك الشاب اليافع المدعو ماجد ، ولكنها تذكرت أيضاً ، ضرورة ذهابها لقبر أبيها ، فهى تعتنى بتلك الزهور والورود ، التى زرعتها هى أمام قبره ، فأصطحبت شقيقها بعد خروجها من غرفة جدتها ، وإخبارها بنيتها بالذهاب للمقابر
فوصلا حيث أرادت ، فجلست القرفصاء أمام القبر ، وتلمست الورود بحنان ، ولكن عيناها فاضت بالدموع ، التى تساقطت تروى الورود عوضاً عن الماء ، فوالدها رحل عن العالم ، وهى لم تكن أكملت عامها الثامن بعد ، فهى كانت أشد حباً وقرباً من أبيها ، فهى مازالت تتذكر دلاله لها ، خلافاً لذلك الجفاء الذى كانت تشعر به دائماً من معاملة والدتها لها ، فهى لم تهتدى لسبب هذا الجفاء والمعاملة الخشنة من جانبها
______________
ولج رفيق إلى مقر عمله ، بخطوات متأنية وهادئة ، كعادته دائماً ، يتبعه شقيقه مالك ، فالعاملين بحالة تأهب وترقب شديد لمجيئه ، وكأنهم بأحد العروض العسكرية ، يومئ برأسه بهدوء لكل من يقابله ، فبمجرد دلوفه لغرفة مكتبه ، ألتقطوا أنفاسهم ، التى شعروا بأنها تكاد تتلاشى من كثرة إحتباسها
فألتقطت سكرتيرته أنفاسها تحدث زميلتها فى العمل قائلة بتأفف :
–:” أوووووف يا ستير يارب على وقفة كل يوم دى دا تحسى ان الواحد أعصابه مشدودة ونفسه مكتوم لو كان أتاخر شوية فى دخول مكتبه كان هيغمى عليا “
تبسمت صديقتها وهى فتاة تدعى نسرين وقالت :
–:” مش عارفة لما يدخل المكان تحسى ان المكان بقى ضيق كده ليه مع ان الشركة كبيرة بس وجوده فى اى مكان بيحسسك ان المكان بقى ضيق ومفيش هوا علشان نتنفس ولما يعلى صوته بحس أن شوية وهيجيلى طرش”
ضحكت بسمة بخفوت على قول نسرين فقالت بإعجاب ظاهر :
–:” بس الصراحة هو كاريزما أووووى وحلو كده يخرب بيت الميكس الغريب اللى هو فيه ده”
شهقت نسرين قائلة بتحذير :
– :” أنتى اتهبلتى ولا إيه يا بسمة لو خطيبك سمعك هيعلقك من ودانك”
رفعت بسمة شفتها العليا وهى تقول :
–:” يا اختى اتنيلى على عينك ما انتى كمان عينك من مالك اخوه ودايبة فى أهله “
بسماع قول بسمة ، تغشى الحزن عينى نسرين ، فقالت بغصة قوية :
–:” خلاص بقى يا بسمة مالك خطب وهيتجوز”
قالت بسمة وهى تزفر بسخط :
–:” اه البت الرخمة أنثى اليربوع دى اللى إسمها ماهيتاب الشريف”
تبسمت نسرين بألم قائلة :
–:” بت رخمة ! انتى مش عارفة هى تبقى بنت مين يا بسمة”
رفعت بسمة يدها تشير بها بعدم إكتراث :
–:” علشان يعنى ابوها راجل غنى وواصل وإيه يعنى طظ فيها هى وأبوها كمان”
أشارت لها نسرين بالصمت قائلة :
– :” طب اكتمى بقى متجبيش لينا مصيبة على الصبح واحنا لسه فى اول اليوم لمستر رفيق يسمعك وهتلاقيه مدينا ورق الرفد فى ايدنا واحنا ما صدقنا نشتغل ونلاقى شركة كويسة فحافظى بقى على لقمة عيشنا الله يباركلك”
أماءت بسمة برأسها وقالت :
– :” أه أحسن ده مبيتفاهمش كلمة ورد غطاها معندوش يا أما ارحمينى مبيعملش خاطر لحد ابدًا أعوذ بالله”
–:” يعنى هو وصل للنجاح ده كله بعرق جبينه ، وهيسمح لحد أنه يعطله دا يرفد واحد يعين عشرة مكانه”
قالت نسرين عبارتها وحملقت بالورق بين يديها ، وهى الأوراق الخاصة بمشروعات البناء ، التى يعمل مالك على تنفيذها ، فرفيق يعمل على شراء الأراضى الصالحة للبناء ، على أن يقوم مالك بتصميم عصري جديد للبنايات السكنية ، فالشركة مختصة بأعمال البناء وشراء الأراضي
هتفت بها بسمة بإشادة بأخلاق رفيق :
–:” بس تصدقى برضه عمره ما جه على ضعيف أو غلبان أو إستقوى على حد هو بس عملى وجد زيادة عن اللزوم”
أماء نسرين برأسها عدة مرات وهى تقول :
–:” صدقتى أنا حتى مبشفهوش يضحك ابدًا ولا حتى بيبتسم مع أن أخوه وأخته ومامته عسلات ووشهم دايما مبتسم”
فقالت بسمة بتفكه :
–:” يمكن خايف يضحك وشه يشقق “
تبسمت نسرين رغماً عنها من قول بسمة فقالت :
–:” بس اللى مستغرباله أنه سايب الجرح اللى فى وشه ده مش حتى يفكر يعمل عملية تجميل”
لملمت بسمة الأوراق عن مكتبها وهى تقول :
– :” دا يمكن الجرح ده اللى عمله هيبة كده رهيبة دا زايد فى وسامته مش مقللها تحسى إنه راجل كده مالى مركزه مش زى شباب اليومين دول”
أطلقت نسرين تنهيدة شابها الحزن قائلة :
–:” احنا هنفضل نرغى ومش هنعمل حاجة فى يومنا ده أنا هروح أشوف مستر مالك ليكون عايز حاجة”
ربتت بسمة على كتفها بمواساة:
– :” ماشى وقلبى عندك”
زادت إبتسامتها حزناً وهى تقول :
–:” كله نصيب يا بسمة”
ذهبت نسرين إلى مكتبها ، فهى السكرتيرة الخاصة بمالك ، فمنذ عملها بالشركة ، ووقع بصرها عليه أحبته ، ولكنه ليس حراً ، فهو على وشك الزواج من فتاة من وسط الاثرياء تناسبه ، فما هى إلا فتاة من أسرة فقيرة ، فكيف سيلاحظها أو يشعر بحبها له ؟ فتنهدت بحزن شديد على حالها ، فما أسوء أن يقع الانسان فى الحب مع الشخص الخطأ
________________
أنتهى ” أكمل ” من عقد رابطة عنقه ، ونثر عطره الثمين بسخاء ، فهو بصدد الذهاب لعمله ، ولكن إستدار برأسه ينظر بسخرية لتلك المرأة النائمة بدون أدنى اهتمام به ، ففتحت إبنته الصغيرة ذات الرابعة من عمرها باب الغرفة ، وولجت راكضة إليه ، فابتسم لها ابتسامة عريضة ، ففتح لها ذراعيه فغاصت بينهما ، فاحتضنها ورفعها عن الأرض ، وهو يقبل وجنتيها بحب شديد ووله ، فتلك الصغيرة ، هى من تجعل له سبباً يحيا من أجله
فقبلت الصغيرة وجنته وقالت بصوتها الرقيق:
– :” صباح الخير يا بابى أنا صحيت خلاص من النوم”
مسد أكمل على رأس إبنته قائلاً :
–:” صباح النور يا قلب بابى شطورة يا كنزى “
عبث الصغيرة برابطة عنقه وهى تقول :
– :” مامى لسه مش صحيت يا بابى “
شخص أكمل ببصره تجاه زوجته النائمة فقال بسخرية :
– :” وهى مامى بتصحى دلوقتى برضه يا كنزى”
– :” طب انا عايزة أروح الحضانة مين هيودينى أنا مش عايزة الدادة”
قالتها الصغيرة بطيف من الحزن مر بعينيها ، فهى لا تحصل على المقدار الكافى من حب ورعاية والدتها ، فهى تقضى وقتاً أكثر برفقة المربية عوضاً عن والدتها
فتململت تلك المرأة في فراشها ، متأففة من تلك الاصوات التى تزعجها أثناء نومها ، فصاحت بضيق :
:” فى ايه ايه الاصوات دى على الصبح أنا مش عارفة أنام”
وضع أكمل الصغيرة أرضاً وهو يقول :
–:” ده بدل ما تقومى تشوفى بنتك وتجهزيها علشان حضانتها يا شهيرة”
ضمت شهيرة حاجبيها وقالت:
– :” وهى فين الدادة بتاعتها”
أجابها أكمل بنزق :
–:” الدادة ! وأنتى متاخديش بالك من بنتك ليه وراكى إيه يعنى”
بصياحه بوجهها ، شعرت شهيرة بالامتعاض والاستياء ، فردت بحدة مماثلة :
– :” أكمل مش هنفضل نتكلم فى الموضوع ده كتير ماشى مش كفاية أنك أنت اللى غصبت عليا علشان اخلف وكمان بسبب الخلفة وزنى زاد وجسمى باظ وباعجوبة على ما عرفت اظبط جسمى تانى”
أصدرت أسنانه صوت صرير قوى ، وهو يسحق فكيه من الغيظ :
– :” والله هو ده اللى هامك مش هامك بنتك ولا هامك جوزك المهم رشاقتك ولياقتك وخلاص دى عيشة تقصر العمر”
قالت شهيرة بتأفف وبرود :
–:” اوووف بليز يا أكمل متكملش ومش خلصت أتفضل روح على شغلك وكنزى خلى الدادة توديها الحضانة وياريت تقفل الباب وراك”
انهت حديثها ،وسحبت الوسادة تضعها على رأسها ، معلنة بذلك نهاية الحديث ، فأخذ ابنته وخرج من الغرفة ، وهو يشعر بكل شياطين العالم كله تتراقص أمام عينيه ، من غضبه من تلك المرأة الانانية ، التى لا تفكر بأحد سوى نفسها فقط، غير مبالية به أو بابنتها الوحيدة
نظرت الصغيرة لأبيها وهى تقول بحزن :
–:” هى مامى مش هتوديتى الحضانة يا بابى “
أخذ كفها الصغير بين كفه الضخم وهو يقول بحب :
–:” تعالى يا حبيبتى انا هوديكى الحضانة وبعدين هروح الشغل”
فرحت الصغيرة أن أباها سيصلها إلى روضتها اليوم ، فهى تحب أباها بشدة ، ولكن أحياناً تشعر بأن والدتها لا تحبها ، ولا تعرف لماذا ؟ فعقلها الطفولى لم يستوعب بعد عدم اهتمام امها بها
قام أكمل بايصالها إلى روضتها ، ثم ذهب الى عمله ، فهو شريك رفيق فى العمل ، وصديقه المقرب منذ الطفولة ، ظل يضرب بيده على مقود السيارة ، يريد تنفيس ما به من غضب من تصرفات زوجته ، فإلى متى ستظل بهذه الأنانية ؟
فأحياناً كثيرة يفكر لماذا ارتبط بها وتزوجها ؟ هل كان يريد أن يحصل بارتباطه بها على النفوذ ؟ فهى إبنه رجل أعمال ذائع الصيت بسوق الأعمال ، ولكنه بالأساس صار جائراً بحقه وحق ابنته لكونه تزوجها وأصر عليها بالإنجاب
____________
تسير تلك الفتاة ذات الثالثة والعشرون عاماً ، بخطوات رشيقة تمد يدها تعيد شعرها للخلف ، وترتدى نظارة شمسية من أفضل الماركات العالمية ، يصدر حذاءها صوتاً رناناً ، على تلك الأرضية الرخامية ، تلوى ثغرها الغض بابتسامة جانبية ، من نظرات الاعجاب ، التى تراها فى أعين هؤلاء الرجال ، عندما تلج لأى مكان ، كأنها شبيهة بفينوس ، رمز الجمال و الغرور
وصلت إلى مكتب مالك ، فنظرت لنسرين من خلف نظارتها وقالت :
– :” هاى مالك جوا فى مكتبه”
رفعت نسرين رأسها بعد سماع صوتها ، الذى بعث بداخل أذنيها وقلبها ناراً تحرق الفؤاد ، فإبتلعت تلك الغصة بحلقها فقالت :
–:” أيوة يا أنسة ماهيتاب هو جوا ثوانى أديله خبر”
قالت ماهيتاب وهى تجلس على حافة مكتبها :
– :” طب بسرعة بليز”
جلست على حافة المكتب تهز قدميها بلا مبالاة ، فرفعت نظارتها عن وجهها ، ووضعتها بمنتصف رأسها ، فإجتمعت خصيلاتها الحريرية على ظهرها ، بعدما كانت تتهدل على جانبى وجهها ، لثوانى معدودة ظلت نسرين تنظر إليها ، وكأنها تقيم حالتها ، وتضيف سبباً آخر للفرق الشاسع بينهما ،وعندما رآت أن كثرة المقارنة ، ستؤدى بها فى النهاية لمزيد من الحسرة ، قامت نسرين بطرق باب غرفة مكتب مالك
فسمعت صوته من الداخل قائلاً :
– :” ايوة أدخلى يا نسرين”
ولجت نسرين غرفة المكتب وهى تقول :
– :” مستر مالك آنسة ماهيتاب خطيبة حضرتك عايزة تقابلك ، هى برا”
ترك مالك مقعده بتلهف فقال متبسماً :
– :” خليها تدخل بسرعة يا نسرين”
رأت ابتسامته وتلهفه لرؤية تلك الفاتنة ، فخفضت عينيها أرضاً تمنع دموعاً على وشك التجمع بمقلتيها ، فتلك الابتسامة لا تزيده إلا وسامة ، وهى لا تريد أن تنجرف فى ذلك الطريق ، الذى بدأت معانتها فيه ، عندما رأته بالمرة الأولى ،فخرجت من المكتب ، تجر قدميها قسراً ، ونظرت لتلك الفتاة الجالسة على مكتبها ، شعرت بالغيرة الساحقة ، وكيف لا وهى سترى تلك الفتاة تدلف الى مكتبه الآن؟ ستسمع بأذنيها صوت ضحكاتهما سوياً ، التى ستكون مثل الخناجر المسمومة التى تطعن قلبها
فقالت نسرين بغصة قوية :
–:” أتفضلى يا أنسة ماهيتاب هو مستني حضرتك جوا”
إستقامت ماهيتاب بوقفتها وقالت بترفع :
– :” شكرا يا أنتى هو أنتى إسمك إيه كل مرة أنسى إسمك”
قالت نسرين بصوت فاتر :
–:” إسمى نسرين حضرتك”
أمسكت ماهيتاب طرف سترتها ، كأنها تعيد ترتيبها فقالت :
– :” أه أه ماشى”
بعد أن أنهت جملتها ، أولتها ظهرها ، فقامت بفتح الباب وولجت بتلك الابتسامة العريضة ، التى تسلب مالك عقله
فصاحت بصوتها ذو البحة الرقيقة :
–:” هاى مالك”
قفزت دقات قلبه بعد سماع صوتها ، فما كان منه سوى أن أبدى ترحيبه بقدومها :
–:” أهلا ماهيتاب نورتى الشركة”
جلست ماهيتاب على مقعد أمام مكتبه الأنيق وهى تقول :
– :” ميرسى يا حبيبى”
جلس مالك بالمقعد المقابل لها ، وهو يقول بإبتسامة :
–:” بس ايه سبب الزيارة السعيدة دى أنا كنت شوية وهكلمك”
نقرت بأصابعها الرقيقة والنحيلة على طرف المكتب وقالت :
– :” وحشتنى يا حبيبى جيت اشوفك ولا بلاش يعنى”
قال مالك وهو يهم بالضغط على أحد أزرار التنبيه الموجودة على سطح المكتب ، من أجل إستدعاء نسرين :
– :” يا سلام دا أنتى نورتى الدنيا كلها تشربى إيه”
رفعت يدها تنهره بلطف عن طلب مشروب لها قائلة :
–:” ميرسى يا حبيبى مش عايزة حاجة “
رفع مالك يده عن الزر ، فأبدى إقتراحاً :
– :” طب إيه رأيك نخرج نتغدا برا النهاردة”
أماءت ماهيتاب برأسها موافقة وهى تقول :
–:” أوك ماشى يلا بينا”
نهضت عن مجلسها ، ووقف مالك أيضاً ، فسحب إحدى الملفات قائلاً :
–:” طب ثوانى هدخل الورق ده لرفيق وأقوله إن أنا خارج معاكى علشان نتغدا”
عندما إستمعت له يذكر شقيقه ، فأقترحت قائلة :
–:” استنى اجى معاك اسلم عليه بقالى كتير مشوفتوش”
تبسم لها مالك وقال :
–:” ماشى يلا بينا يا حبيبتى”
خرجا من غرفة مكتبه ، واتجها الى غرفة مكتب رفيق ، قام مالك بطرق الباب عدة طرقات مهذبة ، فسمع صوت أخيه يأتى من الداخل يقول بصوت رخيم :
– :” ايوه ادخل”
ولج مالك إلى الغرفة ، تتبعه ماهيتاب بخطوات متأنية ، فرفع رفيق عيناه عن الأوراق أمامه ، ونظر لشقيقه قائلاً بتساؤل :
–:” ايوة يا مالك خير فى إيه”
وضع مالك الأوراق أمامه وهو يقول بشئ من الفخر :
–:” ده الورق اللى أنت كنت طالبه منى خلاص خلصته وكله تمام”
فتح رفيق الملف يتفحص محتواه فرد قائلاً:
–:” تمام يا مالك إزيك يا ماهيتاب”
تقف تضع طرف نظارتها بين شفتيها باغراء ، تنظر إليه تراه يتحدث ، تتابع نظره عيناه وحركه يديه وجسده ، فياله من رجل يخطف الأنفاس ، فمنذ أول مرة رأته بها ، وهو كأنه سلب منها عقلها وأنفاسها
فالتوى ثغرها بابتسامة من رؤيته وقالت :
–:” هاى رفيق أنا تمام اخبارك ايه”
رد رفيق بجدية تناسبه :
:” تمام الحمد لله نورتى الشركة”
تتابعت أنفاسها بهمس ، كأنها بالدقيقة التالية لن تكون قادرة على التنفس ، فخرج صوتها مبحوح :
–:” ميرسى يا رفيق كلك ذوق بس بقالنا كتير مش بنشوفك يعنى”
أجابها رفيق بهدوء :
– :” أصلى مشغول شوية باباكى ومامتك اخبارهم ايه”
قالت ماهيتاب بصوت أنثوى معبأ بإغراء :
–:” تمام وبيسلموا عليك ونفسهم اوى يشفوك بيقولوا أنك وحشتهم أوى”
رفع يده يرخى رابطة عنقه وقال :
– :” ان شاء الله أبقى أزورهم فى أقرب وقت”
–:” أنا هخرج اتغدا أنا وماهيتاب لو فى اي حاجة رن عليا”
قال مالك عبارته وهو يتحرك ناحية الباب ، فى إنتظار أن توافيه ماهيتاب
فرد رفيق قائلاً :
–:” ماشى وياريت متتاخرش مع السلامة”
انهى حديثه ، وعاد ينظر إلى تلك الأوراق أمامه ، كانت تقف هى غير منتبهة لإلحاح مالك بالنداء ، فعاد يقف بجانبها فعلا صوته قليلاً :
–:” ماهيتاب ماهيتاب يلا بينا”
أدركت بلاهتها بالتحديق المستمر برفيق ، فردت قائلة بأسف :
–:” سورى يا مالك سرحت شوية بتقول ايه”
أجابها مالك بصوت عاشق :
–:” بقول يلا بينا نمشى علشان نتغدا”
بادلته الإبتسام بإبتسامة أشد إغراءاً وقالت :
– :” اه سورى يلا بينا باى رفيق”
–:” مع السلامة”
قالها رفيق بهدوء ،فهو لم يكلف نفسه عناء رفع رأسه ، فهو رد على حديثها ، بدون أن يرفع عينيه عن الأوراق الموضوعة أمامه
أصابها الضيق من غطرسة هذا المتعجرف ، فلما لا ينظر لها عندما تحدثه ، ألا يعلم كم رجل يتمنى فقط أن تلقى عليه تحية الصباح وليس أن تتجاذب معه الحديث ، ولكن هو هكذا منذ معرفتها به ، كأنه خُلق من جليد ، فهى لم ترى إبتسامته إلا نادراً ، عندما تذهب لزيارة والدته أو شقيقته بالمنزل ، فهى لا تذهب لهناك إلا من أجل رؤيته ، فقلبها لا يرى أحداً غيره ، حتى وإن كانت خطيبة شقيقه ، فتتمنى أن تضع قلبها بين يديه ، وأن تتخذه هو زوجاً ، فكيف سيكون حالها ، عندما يتوددها هذا الرجل الجليدى ، فربما سيكون غزله وإطراءه يحمل طابع الخشونة ، وهذا ما يستميلها ، فعلى الرغم من عشق مالك لها ، لكنه لم يستطيع جعلها أن تشعر بكم تلك المشاعر التى تراودها بشأن شقيقه الأكبر
_____________
تجلس أمام ذلك الجدول الصغير ، المملوء بالماء تضع قدميها به ، تبتسم على تصرفاتها الطفولية ، فهى ترى الفلاحين فى تلك الأراضى يزرعون بدأب ، فهى تعشق رؤية تلك الأراضى الخضراء ، فهى كأنها جنة على الأرض ، فهى نشأت على حب ذلك الجمال ، من المساحات الخضراء المزروعة بمختلف أنواع المحاصيل الزراعية ، فتذكرت والدها الحبيب ، فهو كان مهندساً زراعياً ، غرس بها حب الطبيعة والزراعة ، فتلك المساحة الشاسعة من الأرض ملك لهم ، فعائلة والدها توارثت تلك الأراضى من جيل إلى جيل ، حتى أصبحت هى وشقيقها ورثة لتلك الأراضى
لم تفيق من ذكرياتها ، إلا على صوت يناديها ، فالتفتت إلى مصدر الصوت بابتسامة مشرقة ، فمن يناديها ابن صديق والدها ، ذلك الشاب الذى يُدعى ماجد ، وهو شاب يدرس بالسنة الخامسة بكلية الطب
فتركت مكانها وهى تقول بسعادة :
– :” ايه ده ماجد حمد الله على السلامة انتوا جيتوا أمتى”
رد ذلك الشاب الوسيم ، الذى يميل جسده للنحول قليلاً وعيناه تتوارى خلف نظارة طبية أنيقة :
– :” وصلنا امبارح بالليل”
زاغت بعينيها عن وجهه ، وهى تشعر بحرارة شديدة تغزو وجنتيها من شدة الخجل ، فخرج صوتها ضعيفاً بإرتباك :
–:” ومامتك وباباك وأخواتك أخبارهم ايه”
أجابها ماجد مبتسماً من رؤية خجلها وإرتباكها الواضح :
– :” الحمد لله كويسين بيسلموا عليكى وهييجوا النهاردة بالليل علشان يزوروا تيتة علية هى اخبارها إيه”
زفرت ليان بصوت مرهق :
– :” أهو الحمد لله نحمد ربنا على كل حال”
شعر بالقلق من نبرة صوتها المرهقة ، فتساءل بإلحاح :
– :” هى لسه تعبانة برضه يا ليان هى مش راحت للدكتور”
سارت ليان بضع خطوات وهى تقول :
– :”راحت وقال لازم ليها الراحة ومتتعبش نفسها خالص وتيتة مبتسمعش الكلام”
وضع مسافة أمنة بينهما وهو يقول :
– :” ربنا يشفيها يارب ها وأنتى أخبارك إيه”
قالت ليان بخجل شديد :
– :” الحمد لله كويسة والنتيجة قربت تظهر”
ضبط وضع نظارته على عيناه ، كأنه يشعر بالخجل هو الأخر فقال بتمنى :
–:” إن شاء الله على خير و أنتى لما تدخلى جامعة القاهرة لازم تيجى تقعدى عندنا على ما تخلصى دراسة”
كورت ليان قبضة يدها ، لعلها بذلك تستمد القوة ، التى تفتقر لها برؤياه :
–:”إن شاء الله هبقى اقعد فى المدينة الجامعية”
حرك ماجد رأسه برفض وقال :
– :” يعنى تقعدى فى المدينة الجامعية وبيت عمك محسن موجود عيب عليكى يا ليان ولا أنت بتعتبرينا أغراب عنكم”
نظر إليها فخفضت نظرها أرضاً ، يتلون وجهها بألوان قوس قزح ، فهى عندما تراه ، لا تعلم ما يصيبها ، فهى تشعر بمشاعر الحب نحوه ، ولما لا فهى تعرفه منذ أن عرفت معنى الحياة ، ولكنه لا يعلم بما تكنه له فى قلبها ، ولا يعلم أحد فهى لم تبوح له بذلك ، فذلك الشعور مكنون بداخل قلبها ، وتريد منه المبادرة أولاً ، وليست أى مبادرة ، فهى تريده أن يأتي لخطبتها
أبتسم لها بخجل هو الآخر ، فهو يريد أن يبوح بما فى قلبه، ولكنه لا يستطيع الآن ، فهو يريد أن ينتهى من دراسته ، حتى يكون جديرا بها ويستطيع الفوز بتلك الفتاة ، التى يراها اجمل فتاة بعينيه ، ولما لا فهى حباها الله ذلك الجمال الممزوج بالقبول لدى الأخرين ، فبها شئ لا يصمد أمامه أحد كثيراً ، كأنها لغز يحير الناظرين إليها
فخلف إحدى الشجيرات ، كان يقف ذلك الشاب الذى تشاجرت معه بالسوق ، بل إنها صفعته على وجهه ، رفع يده يتحسس مكان تلك الصفعة وهو يتوعدها
فنظر إليهما بشر وقال :
– يعنى بتضربينى بالقلم ودايرة على حل شعرك ، إما رديتلك تمن القلم ده غالى وخليت سمعتك على كل لسان مبقاش أنا يا بنت إلهام
أخرج هاتفه من يده ، ذلك الهاتف الذى توسل أبيه من أجل شراءه ، وهو يمنيه بأن حلمه بالاستيلاء على تلك الأراضى التى تخص عائلة ليان ، ستكون بقبضة يده قريباً ، بل أنهم هم من سيتوسلونه بالزواج منها ، ففرح الأب فرحاً شديداً ، بما قاله الإبن ، وعمل على توفير كل ما يلزمه من أجل تحقيق ذلك الحلم ، الذى راوده منذ سنوات طوال ، فتلك الأراضى هى الأخصب والأكثر إنتاجاً للمحاصيل الزراعية بالبلدة بأكملها ، وليس هذا فحسب فالأراضى التى لم يتم زراعتها ، أصبحت اليوم تباع بمبالغ مالية كبيرة
أصدر الهاتف صوتاً منخفضاً دليلاً على إلتقاط العديد من الصور ، التى هو بحاجة إليها ، من أجل إتمام خطته على الوجه الأكمل ، فتفحص الصور الصورة تلو الأخرى ، وإبتسامته تزداد إتساعاً
فقال بوعيد :
– شوفى بقى اللى هيجرالك يا ليان أنتى والحبيب بتاعك ولما تشوفى أنتى المفاجأة اللى محضرهالك وأكيد هتنبسطى منها أوى
وضع الهاتف بجيبه وغادر مكانه ، بعدما رآها تودع ماجد ، عائدة إلى منزلها ، وذهب ماجد بطريقه هو الآخر
وصلت للمنزل وأدارت مقبض الباب ، تلج بصياح كعادتها دائماً ، ولكنها وجدت شقيقها باسم يقترب منها بوجه شابه الإصفرار ، فجسده وشفتاه يرتجفان
ففزعت من رؤية وجهه ، فأقتربت منه تتحسس وجهه وهى تقول :
– باسم مالك فى إيه وشك مصفر ليه كده حصل إيه فى إيه يا أبنى مالك رد عليا
تلعثم باسم بقوله :
– أاالحقى يا ليان فى مصيبة
____________
يتبع….!!!!!
اترك رد